عناية الفاروق عمر بفئات المجتمع وطبقاهم
اهتمام عمر بجميع رعيته
كان اهتمام عمر بن الخطاب رضي الله عنه برعيته وقيامه بشؤونها ورعايته لمصالحها شاملاً لجميع فئاتها وطبقاتها، فلم يكن يفضل فئة على فئة ويحسن إلى واحدة دون الأخرى.
روي أن عمر رضي الله عنه أشار إلى ذلك في خطبة خلافته، فقال:
"أيها الناس إني نظرت في أمر الإسلام فإذا هو إنما يقوم بخمس خصال، فمن حفظهن وعمل بهن وقوي عليهن فقد حفظ الإسلام، ومن ضيع منهن خصلة واحدة، فقد ضيع أمر الإسلام، ألا فمن كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر فإن حفظتهن وعملت بهن وقويت عليهن إلا وآزرني، ألا ومن كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر فإن ضيعت منهن خصلة واحدة إلا خلعني خلع الشعرة من العجين، فلا طاعة لي عليه.
فقام إليه عمار بن ياسر رضي الله عنه، فقال: وما هذه الخمس الخصال يا عمر؟
فقال: أما الأولى، فهذا المال من أين آخذه أو من أين أجمعه، حتى إذا أخذته من مآخذه التي أمرني الله أن أضعه فيها (أي وأضعه في مواضعه) حتى لا يبقى عندي منه دينار ولا درهم ولا عند آل عمر خاصة.
وأما الثانية، فالمهاجرون تحت ظلال السيوف أدر عليهم أرزاقهم، وأوفر عليهم فيئهم، ولا أجمرهم في المغازي، وأكون أنا أبو العيال حتى يقدموا، وأما الثالثة، فالأنصار الذي آووا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونصروه وواسوه في دمائهم وأموالهم أدر عليهم أرزاقهم، وأوفر فيئهم، وأفعل فيهم وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبل محسنهم وأعفو عن مسيئهم.
وأما الرابعة، فالعرب، فإنهم أصل الإسلام، ومنبت العز، أثبتهم على منازلهم وآخذ من أموالهم صدقة أطهرهم وأزكيهم، لا آخذ في ذلك ديناراً ولا درهما، إلا الشاة والبعير، ثم أرده على فقرائهم.
وأما الخامسة، فأهل الذمة، أوفي لهم بعهدهم، وأقاتل عدوهم من ورائهم، ولا أكلفهم إلا دون طاقتهم، فإذا فعلت ذلك كنت عند الله مصدقاً، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم [1].
تقريبه لأهل الفضل والسابقة
وكان عمر رضي الله عنه إضافة إلى اهتمامه بجميع طبقات رعيته يقرب أهل الفضل والسابقة في الإسلام وصحابة النبي صلى الله عليه وسلم.
حضر إلى باب عمر رضي الله عنه عدد من زعماء قريش في الجاهلية فيهم أبو سفيان بن حرب، وسهيل بن عمرو، والحارث بن هشام، وحضره عدد من الموالي فيهم صهيب الرومي وبلال، فأذن عمر رضي الله عنه لصهيب وبلال ومن معهما، فغضب من كان واقفاً من أشراف قريش، فقال عمر أو سهيل: "دعي القوم ودعيتم، فأسرعوا وأبطأتم فلوموا أنفسكم" [2].
وروي أن سلمان الفارسي رضي الله عنه قدم على عمر رضي الله عنه، فقال للناس: أخرجوا بنا نتلق سلمان [3]. وروي أن خباب بن الأرت رضي الله عنه جاء إلى عمر رضي الله عنه فقال له عمر: أدن، فما أحد أحق بهذا المجلس منك إلا عمار بن ياسر، فجعل خباب يريه آثاراً في ظهره مما عذبه المشركون [4].
وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يكرم قرابة النبي صلى الله عليه وسلم وأهل بيته ويجلهم، قال عمر رضي الله عنه لفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله ما من أحد أحب إلينا من أبيك، وما من أحد أحب إلينا بعد أبيك منك [5].
وروى البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه: كان عمر رضي الله عنه إذا قحطوا استسقى بالعباس ابن عبد المطلب، فقال: اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا، فيسقون.
وكان رضي الله عنه يقرب أهل التقوى والصلاح ويجلهم ويرفع من شأنهم ومن ذلك سؤاله رضي الله عنه عن سيد التابعين أويس القرني رحمه الله تعالى، فقد أتاه أمداد أهل اليمن فسألهم أفيكم أويس؟
حتى أتى على أويس، فقال: أنت أويس بن عامر؟ قال: نعم، قال: من مراد ثم من قَرن؟ قال: نعم، قال: فكان بك برص، فبرأت منه إلا موضع درهم؟ قال: نعم، قال: لك والدة؟ قال: نعم، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يأتي عليكم أويس بن عامر مع أمداد أهل اليمن من مراد ثم من قَرن، كان به برص فبرأ منه إلا موضع درهم، له والدة هو بها بر لو أقسم على الله لأبره، فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل"، فاستغفر لي، فاستغفر له، فقال عمر: أين تريد؟ قال: الكوفة، قال: ألا أكتب لك إلى عاملها؟ قال: أكون في غبراء الناس أحب إلي .." [6].
ومن ذلك تقريبه لأبي مسلم الخولاني رحمه الله تعالى الذي حرقه الأسود العنسي المتنبي باليمن لعنه الله، وكان طلب منه الارتداد عن الإسلام والشهادة له بأنه رسول من عند الله عز وجل، فأبى ذلك فحرقه بالنار، ولكن الله عز وجل حماه فلم تحرقه النار.
ثم قدم أبو مسلم الخولاني المدينة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، فأناخ راحلته بباب مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، ودخل المسجد، فصلى إلى سارية، فبصر به عمر رضي الله عنه، فقام إليه، فقال: ممن الرجل؟ قال: من أهل اليمن، قال: ما فعل الرجل الذي أحرقه الكذاب بالنار؟ قال: ذلك عبد الله بن ثوب، قال: أنشدك بالله أنت هو؟ قال: اللهم نعم.
فاعتنقه عمر وبكى ثم ذهب به حتى أجلسه فيما بينه وبين أبي بكر، وقال: الحمد لله الذي لم يمتني حتى أراني في أمة محمد صلى الله عليه وسلم من فعل به كما فعل بإبراهيم خليل الله عليه السلام [7].
ومن الآثار المروية عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في إكرامه لأهل الفضل والتقوى: ما روي من أن بيرح بن أسد خرج مهاجراً إلى المدينة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، فرآه عمر رضي الله عنه يطوف في سكك المدينة، فأنكره، فقال: من أنت؟ قال: أنا رجل من أهل عمان، فأخذ بيده، فذهب به إلى أبي بكر رضي الله عنه، فقال: يا أبا بكر، هذا من الأرض التي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إني لأعلم أرضاً يقال لها عمان ينضح بناحيتها البحر، بها حي من العرب، لو أتاهم رسولي ما رموه بسهم ولا حجر" [8].
وروي أن الطفيل بن عمرو الدوسي رضي الله عنه حارب المرتدين في موقعة اليمامة، ومعه ابنه عمرو، فجرح عمرو، وقطعت يده، فكان يوماً عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأتي بطعام، فتنحى عنه، فقال عمر: مالك تنحيت بمكان يدك؟ قال: أجل، قال: والله لا أذوقه حتى تسوط بيدك فيه، فوالله ما في القوم أحد بعضه في الجنة غيرك [9].
وروي أن عمر رضي الله عنه كتب إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه وهو بالبصرة: بلغني أنك تأذن للناس جمعاً غفيراً، فإذا جاءك كتابي هذا فأذن لأهل الشرف وأهل القوة والتقوى والدين، فإذا أخذوا مجالسهم فائذن للعامة [10].
[1] رواه ابن شبة: تاريخ المدينة، 2/240، وفي إسناده أحمد بن معاوية الباهلي، قال ابن عدي: حدث بأباطيل وكان يسرق الحديث. ميزان الاعتدال 1/157. والأثر ضعيف.
[2] رواه سعيد بن منصور: السنن، ت: الأعظمي، 2/123. الإمام أحمد: الزهد، ص142. الفاكهي: أخبار مكة، 3/352. الطبراني: المعجم الكبير، 6/211. والحديث حسن. وفي رواية سعيد بن منصور أن القائل هو الحارث بن هشام رضي الله عنه، وفي رواية أحمد والطبراني أن القائل هو: سهيل بن عمرو رضي الله عنه، وفي رواية الفاكهي أن القائل هو: عمر بن الخطاب، ولا تعارض بين ذلك.
[3] رواه ابن سعد: الطبقات، 4/86.
[4] ابن سعد: الطبقات، 3/165. ابن أبي شيبة: المصنف، 6/385، 7/337. ابن ماجه: السنن، 1/54. أبو نعيم: حلية الأولياء، 3/143 – 144.
[5] رواه ابن أبي شيبة: المصنف، 7/432. الخطيب البغدادي: تاريخ بغداد، 4/401. والأثر صحيح.
[6] الأمداد: الأنصار والأعوان في الجهاد، قَرن بن ردمان: بطن من مراد من القحطانية، رواه مسلم: الصحيح، شرح النووي، 16/95 - 96. ابن سعد: الطبقات، 6/ 161 وغيرهما.
[7] رواه ابن حبان: الصحيح، 1/392. أبو نعيم: حلية الأولياء، 2/128 - 129. ابن عبد البر: الاستيعاب، 4/320، ابن قدامة: الرقة، ص 147 – 148. والأثر حسن.
[8] بيرح بن أسد الطاحي من أهل عمان، هاجر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فوجده قد مات. أحمد: المسند، 1/44. ابن أبي عاصم: الآحاد والمثاني، 4/272 – 273. أبو يعلى: المسند، 1/101. أبو نعيم: معرفة الصحابة، 3/174. والأثر ضعيف.
[9] رواه الحاكم: المستدرك، 3/260، من كلام الواقدي، فالأثر ضعيف.
[10] رواه وكيع: أخبار القضاة، 1/286. ابن كثير: مسند الفاروق، 2/535. والأثر ضعيف.
روابط هذه التدوينة قابلة للنسخ واللصق | |
URL | |
HTML | |
BBCode |
0 التعليقات: